مِنكم وَلاَ تقْتُلُوا أنْفُسَكُم إنَّ اللهَ كان َ بِكُم رحيماً مَن يَفْعَل ذلك عُدْوَاناً وظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيه ناراً وكانَ ذلكَ
على اللهِ يسيراً } النساء30-29.
بني الدِّين على النّصيحة والصّراحة والإخلاص في القول والعمل، حتّى جعل الرّسول صلّى الله عليه وسلّم الدِّين
كلّه المعاملة، وأوجب على كلّ مسلم أن يُحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه، وحرّم ترويج السّلع بالأيمان الفاجرة الكاذبة.
عن أبي سعيد قال: مرّ أعرابي بشاة، فقلت: تبيعها بثلاثة دراهم؟ فقال: لا والله، ثمّ باعها، فذكرت ذلك لرسول الله
صلّى الله عليه وسلّم، فقال: ''باع آخرته بدُنياه'' رواه ابن حبّان. وقال صلّى الله عليه وسلّم: ''إنّ التجار هم الفُجّار''
قالوا: يا رسول الله أليس قد أحلّ الله البيع؟ قال: ''بلى، ولكنّهم يحلفون فيأثمون ويحدّثون فيكذبون'' رواه أحمد
بسند جيّد وصحّحه الحاكم. وقال صلّى الله عليه وسلّم: ''الحلف منفقة للسلعة ممحقة للكسب'' رواه الشيخان،
وفي رواية أبي داود: ''ممحقة للبركة''. وقال عليه الصّلاة والسّلام: ''مَن اشترى سَرقة وهو يَعلم أنّها سرقة فقد
اشترك في عارِها وإثمها'' رواه البيهقي. قال الغزالي: يُقال إنه يوقف التاجر يوم القيامة مع كلّ دخل باعه شيئاً وقفة
ويحاسب على كلّ واحد محاسبة على عدد من عامله.
والإسلام حرَّم التّلبيس على المشتري بإخفاء عيب
السلعة عليه. قال صلّى الله عليه وسلّم: ''مَن باع عيباً لم يزل في مقت الله ولم تَزل الملائكة تلعنه'' رواه ابن ماجه.
فالغش جرم عظيم، وذنب كبير، وصفة قبيحة، وخصلة شنيعة وموت للضّمير والوجدان.
أيُّها الغاش.. أتزعم أنّك مسلم؟ والمسلم من سَلِم المسلمون من لسانه ويده، أتعتبر أنّك مؤمن؟ والمؤمن من أَمِنَ
النّاس على دمائهم وأعراضهم، إنّ المال المكتسب من الغشّ سُحت حرام، وسيذهب بما عندك من مال وعقاب، وكلّ
لحم نبت من سُحْتٍ فالنّار أولى به، ولا يقبل منه عمل ولا يسمع منه دعاء.
وليتأمَّل الغشّاش بخصوصه أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم مرَّ على صبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً،
فقال: ''ما هذا يا صاحب الطعام؟'' قال: أصابته السّماء يا رسول الله، قال: ''أفلاَ جعلته فوق الطعام حتّى يراه
النّاس، مَن غشَّنا فليس منَّا'' رواه مسلم وابن ماجه.
روي أنّ أبا هريرة رضي الله عنه ''مرَّ بمحل يبيع
اللّبن، فنظر إليه أبو هريرة فإذا هو قد خلطه بالماء، فقال أبو هريرة: كيف بك إذا قيل لك يوم القيامة: خلّص الماء
من اللّبن'' رواه البيهقي.
أمّا سمِعتَ هذا القول الشّديد الرّهيب من الله تعالى:{ وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ *
وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُوْلَـئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ
الْعَالَمِينَ } المطففين.16 والويل واد في جهنّم لو سيّرت فيه جبال الدنيا لذابت من شدّة حرِّه. وكان ابن عمر رضي
الله عنه يمرّ بالبائع فيقول: ''اتّق الله، أوف الكيل والوزن، فإنّ المطفّفين يوقفون يوم القيامة حتّى يلجمهم العرق''.
وقال أحد السّلف: دخلتُ على مريض قد نزل به الموت، فحبطت ألقّنه الشّهادة ولسانه لا ينطق بها، فلمّا أفاق قلتُ
له: يا أخي ما لي أُلقِّنُك الشّهادة ولسانك لا ينطق بها؟ قال: يا أخي، لسان الميزان على لساني يمنعني من النُّطق
بها. إن الاحتكار محرَّم في شريعتنا، وهو أن يمسك ما اشتراه من القوت بقصد أن يبيعه بأغلى ممّا اشتراه به عند
اشتداد الحاجة إليه، فصاحبه ملعون مطرود من رحمة الله تعالى، قال صلّى الله عليه وسلّم: ''الجالب مرزوق
والمحتكر ملعون'' رواه ابن ماجه والحاكم، وقال صلّى الله عليه وسلّم: ''مَن احتكر طعاماً أربعين ليلة فقد برئ
من الله وبرئ الله منه'' رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والحاكم. وقال عليه الصّلاة والسّلام: ''مَن احتكر على المسلمين
طعاماً سلّطه الله بالجُذَام والإفلاس'' رواه ابن ماجه.
فاتّقوا الله أيُّها المسلمون، فالحلال بيِّن والحرام بَيِّن
لا اشتباه فيه، والشّريعة الغرّاء قد بيّنَت لنا ظواهر الحرام وخواقيه، فاتركوا التّجاهل والإهمال واستجيبوا لربِّكم
ليصرف عنكم هذا المقت والإذلال وتباعدوا عن الغشّ، فالغاشّ متلاعب في دينه منافق في إيمانه ويقينه، خائن لوطنه،
مغضب لربِّه، وسيلاقي الخزي والتكال، قال تعالى: { واتّقوا يوماً تٌرجَعون فيه إلى اللهِ ثمّ تُوفَّى كُلّ نفس ما كسبَت
وهم لا يُظلمون } البقرة.281