الكنق
11-11-2011, 07:56 PM
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:
فإنه تمرُّ بالناس - سواء كان ذلك على مستوى الفرد أو الجماعة أو الدولة - فترات تتباين فيها الأحوال: من خير وشر، وغنى وفقر، وصحة وسقم، ورخاء وقحط، وانتصار وهزيمة، وعلوٍّ وانكسار، وقد يحار كثير من الناس في تفسير ذلك، ويخطئ كثيرون منهم عندما يرون أن ذلك من دورات الزمان المتعاقبة التي تمر بالأمم في مختلف العصور ولسان حالهم بل مقالهم: قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ [الأعراف: 59].
والحقيقة أن ما نــراه من تقلُّب الأحــوال وتغايرها إنما هو أثــر من آثار حكمة الله الحكيم الخبير؛ فإن لله - تعالى - الأسماء الحسنى، وله تسع وتسعون اسماً مَنْ أحصاها دخل الجنة؛ كما ثبت ذلك في الحديث النبوي، وإن من هذه الأسماء الحسنى اسم «الحكيم».
وقد ورد اسم «الحكيم» فــي القــرآن فــي أكثــر من 90 موضعاً من كتاب الله - تعالى -؛ ســواء كــان معــرَّفاً بـ «ال» أو بدونها، قُرِنَ فيها أكثر ما قُرِنَ باسم «العزيز» واسم «العليم»، ومن هنا يتبين أن أكثر ما يناسب الحكمة (الصفة في اسم الحكيــم): العــزة والعلــم؛ فبالعلــم تُوضع الأمـور فـي أماكنها اللائقة بها، وبالعزة يتم إنفــاذ ما قضــاه الله - تعالى - حيث لا يغالبه في ذلك أحد.
والحكيم: هو الذي يُحْكِم الأشياء ويتقنها، والحكيم: ذو الحكمة، والحكمة عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، ويقال لمن يحسن دقائق الصناعات ويتقنها: حكيم.
وحكمة الله - تعالى - تتناول سائر الموجودات؛ فتتناول الخَلْق والتقدير والتشريع؛ فما خلقه الله - تعالى - خلقه على أحسن خَلْق يليق به وبدوره في الحياة والغاية التي خُلق لأجلها، وما قدَّره الله - تعالى - من الخير والشر والرخاء والشدة؛ فقد قدره على غاية الإتقان والتدبير، حتى إذا كُشف للناس ما خبَّأه الله من غيب وراء هذه الأمور المقدَّرة؛ أدركوا أن هذا التقدير في غاية الحسن، ولا مزيد عليه، وما شرعه الله مما أمر به أو نهى عنه، وما رتّب على ذلك من المكافآت أو العقوبات؛ قد أوفى على الغاية في تحقيق ما لأجله شرع؛ إذ يـدرك النـاس بعـد التعب والشدة واللَأْواء جرَّاء بُعْدهم عما شرعه الله - تعالى - أنه لا يُصلحهم ويُصلح حياتهم إلا اتِّباع شرع الله، حتى لينادي بتطبيق شرع الله من لا يؤمن بالإسلام؛ لمعرفته أنه لا يخرجهم من هذه الورطة إلا تطبيق الشرع في هذا الجانب.
وها نحن أولاء نجد الغرب المشرك الذي يعادي الإسلام ورسوله ولا يدين دين الحق، بل كل همه وشأنه القضاء على دعوة الحق؛ نجد بعض المتخصصين والمثقفين فيه بعد الأزمة المالية الطاحنة التي تمر بهم قد تعالت أصواتهم بتطبيق الشريعة الإسلامية في الجانب الاقتصادي، وكأن هذا تفسير معاصر لقوله - تعالى -: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْـحَقُّ [فصلت: 35].
وتفصيل هذه الجملة لا يفي به في الحقيقة المجلدات الكبار؛ فإن النظر في حكمة الله - تعالى - يعني النظر فيما تقدم كله، وما تقدم أفراده لا تنحصر؛ فكيف يمكن الإحاطة بها؟ ومن ثم نقتصر في حديثنا على الحكمة الواضحة من سنة الابتلاء التي وجدت مع الخليقة وستبقى ببقائهم؛ فهو - سبحانه وتعالى - يبتلي من يبتلي على علم، وهو قادر على إنفاذ ما ابتلى به لا يغالبه في ذلك أحد.
وأصل الابتلاء في اللغة: الاختبار والامتحان، وهو الذي يبيِّن موقف المبتلَى مما ابتُلي به وتصرُّفه حياله، وبذلك تتباين درجات الناس وتتحدد مقاديرهم ومنازلهم في الآخرة، والابتلاء كما يكون بالضراء يكون أيضاً بالسراء، وكما يكون بالخير يكون بالشر، وقد يكون الابتلاء بالسراء أشد من الابتلاء بالضراء، والابتلاء بالخير أشد من الابتلاء بالشر، أو العكس، وكما يحدث الابتلاء للمؤمنين فإنه يحدث للكافرين، وله - تعالى - في ذلك كله الحكمة البالغة.
من حكمة الابتلاء:
لم يكن الابتلاء بالسراء والضراء والحسنات والسيئات والخير والشر مجرد حالة أو موقف، بل كان سُنَّة ربانية ماضية في الناس، كما لم يكن مجرد انتقام من الناس وعقاباً لهم على طغيانهم وضلالهم ومعصيتهم، وإن كانوا مستحقين لذلك بسبب ما كسبت أيديهم، بل كان ذلك لحِكَم جليلة ذكرتها النصوص، وإن كانت الحكمة العامة التي تجمع كل ذلك هو اهتداء الناس وتعبُّدهم لله وحده، والبُعْد عن طريق التمرُّد والعصيان وهو طريق الشيطان:
- التضرع والتذلل والخضوع لرب الأرض والسماوات:
إن الله - تعالى - لا يرضى لعباده الكفر ولا يحبه لهم؛ لذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب تحضُّ الناس على الخير والحق، وتأمرهم بهما، وتبغِّض إليهم السوء والشر وتنهاهم عنهما، لكن من الناس من لا يكفيهم ذلك، فيبتليهم الله - تعالى - ليفيقوا من سكرتهم ويرجعوا إليه، فإن لم يستجيبوا تابع عليهم الابتلاء بأشكاله المتعددة من خير وشر وسراء وضراء؛ لعلهم يتوبون ويؤوبون، وقد بيَّن الله - تعالى - لنبيه أن الابتلاء سنة ماضية في الأمم التي سبقته فقال: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ [الأنعام: 24]، والبأساء: شدة الفقر والضيق في المعيشة، والضراء: الأسقام والأمراض العارضة في الأبدان، بل بيَّن الله - تعالى - أنه ما أرسل رسولاً منه إلى أمة من الأمم فعتوا عن أمره ونهيه وعصوا رسله؛ إلا ابتلاهم؛ حتى يتضرعوا له فيذلوا له ويستكينوا لعزته، قال - تعالى -: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ [الأعراف: 49].
لـم تكـن العقـوبات أو الابتلاءات عقاباً صرفاً، بل كانت تهدف إلى حمل الناس على التضرع إلى الله - تعالى - وحده والخضوع لعظمته واللجوء إليه؛ لأن ترك اللجوء إلى الله والتذلل له خاصة عند الشدائد هو من الاستكبار، كما أن اللجوء إليه وإلى غيره من أهل الصلاح أو غيرهم شرك به، والله - تعالى - لا يقبـل هـذا ولا ذاك، وقـد بيَّـن الله - تعالى - علة ما يرسله من عذاب على من خالف أمره وأمر رسوله الذي أرسل إليه، فقال: فَلَوْلا إذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا [الأنعام: 34]؛ وقال: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ [المؤمنون: 67].
ولــو أن الإنســان إذا جاءه بأس الله تضرَّع لله واستكان له لكشف عنــه ما ألمَّ به، لكن الشيطان لا يزال يغوي ابن آدم ويعده ويمنِّيه؛ كما قال - تعالى -: وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 34]، وقد يأتي بعد الابتلاء بالشدة والبأساء والضراء الابتلاءُ بالرخاء والدَّعَة الذي يعقبه العذاب والعقاب؛ أعاذنا الله من ذلك؛ كما قال - تعالى -: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإذَا هُم مُّبْلِسُونَ [الأنعام: 44]، فبدَّل الله ضيق عيشهم رخاء وسَعَة، وبدَّل أمراضهم صحة في الأجسام وسلامة في الأبدان، وقد فرحوا من شدة جهلهم بهذا التبديل وتغيُّر الأحوال من بأس وشدة إلى دَعَة وراحة، ولم يعلموا سنة الله في الابتلاء؛ فأخذهم العذاب من حيث لا يشعرون؛ كما قال - تعالى -: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْـحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَّقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [الأعراف: 49 - 59].
- إرجاع الناس إلى الحق وتذكيرهم به:
وقد كانت الغاية الشرعية من هذا الابتلاء أن يرجع النــاس إلى ربهــم؛ خالقهــم ورازقهــم؛ محييهــم ومميتهم؛ كما قال الله - تعالى - عن اليهــود: وَبَلَوْنَاهُم بِالْـحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف: 861]، فــاختبـرهــم اللـه - تعالى - بالرخاء في العيش، والصحة والعافية، والسعة في الرزق؛ وهي الحسنات، كما اختبرهم بالشدة في العيش، والشظف فيه، والأدواء في الأبدان والمصائب والرزايا في الأموال؛ وهي السيئات؛ ليرجعوا إلى طاعة ربهم وينيبوا إليه، ويتوبوا من معاصيه، فلم يكن الابتلاء لمجرد الانتقام؛ وإن كان الناس يستحقونه بسبب عتوهم وعدم انقيادهم للحق، لكن الله الحكيم لم يعاجلهم بالعقوبة، بل مدَّ لهم وفسح؛ لعلهم يرجعون، حتى إذا أخذهم بعد طغيانهم وشدة إعراضهم وتناسيهم لما أمرتهم به رسلهم؛ لم يكن لهم حجة أو عذر يعتذرون به، وقد تكرر هذا المشهد مع كثير من الأمم؛ كما في قوله - تعالى -: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 14]، وقوله - تعالى -: وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [السجدة: 12]، وكقوله - تعالى -: وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف: 84]، وكقوله - تعالى -: وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [الأعراف: 031]، فكانت الشدة والبأس الذي يصيب الله - تعالى - به العباد من تمام الرحمة بهم، وذلك لردِّهم عن غيِّهم وإرجاعهم إلى الطريق المستقيم.
- تمييز الصفوف وبيان حقيقة الإيمان:
لا يُظهِـر معادن الناس على حقيقتها إلا ما يقـدره الله - تعالى - على الناس من شدة أو رخاء، كما أن كثيرين منهم لا تتبين حقيقة معادنهم إلا فيما يكلف الله به من الأمر والنهي؛ لذلك كان الابتلاء هو الذي يبين ذلك ويظهره. قال الله - تعالى -: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْـمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْـخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران: 971]، وقال: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْـمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد: 13]، وقال الله - تعالى -: وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْـخَوْفِ وَالْـجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة: 551] وقال - سبحانه -: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْـجَنَّةَ وَلَـمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة: 412]، وقال - تعالى -: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [آل عمران: 681]، وقال - تعالى -: الـم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت: 1 - 3]، فلولا ما يقدره الله - تعالى - من الابتلاء والاختبار ما تميز الصابــر مــن الجــازع، وما تبيَّن الصادق مــن الكـاذب، ولا تبيَّن المؤمن من المنافق، ولا تبيَّن المجاهد من القاعد.
- الإقرار وترك التكذيب:
عندما يتمادى الناس في طغيانهم ويزداد عتوهم؛ فإن الله - تعالى - يبتليهم حتى يضطرهم البلاء إلى الاعتراف والإقرار بما كانوا عليه معترضين، والتصديق بما كانوا به مكذِّبين، ولقد أخذ الله - تعالى - آل فرعون بأنواع متعددة من الابتلاءات، حتى اضطرهم ذلك إلى أن يطلبوا من موسى - عليه السلام - أن يدعو لهم الله كي يكشف عنهم البلاء، وفي ذلك إقرار منهم بنبوة موسى - عليه السلام - فلما وقع عليهم الرجز قالوا: يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إسْرَائِيلَ [الأعراف: 431]، وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إنَّنَا لَـمُهْتَدُونَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إذَا هُمْ يَنكُثُونَ [الزخرف: 94 - 05]، لكنهم لم يستقيموا على هذا الوعد، بل لما كشف الله عنهم العذاب نكثوا عهدهم، فمن علم الله فيهم خيــراً ثبَّتهــم على هذا الاعتــراف والإقرار، وإلا كان الابتلاء في هذه الحالة عذاباً وعقوبة على الكفر والطغيان، كما حدث لفرعون حينما أدركه الغرق هو وجنده قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْـمُسْلِمِينَ [يونس: 09]، لكن الإيمان لا ينفع العبد إذا عاين عذاب الله ونقمته، وهذه سنة ماضية؛ كما قال - تعالى -: فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ لَـمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ [غافر: 58].
كانت هذه بعض الحِكَم التي يمكن رؤيتها بيُسْر مما يقدره الله - تعالى - من الابتلاء، ولا ينبغي أن يكون التصرف الوحيد حيال الابتلاء هو التسخُّط والجزع في حالة الشدة، أو الاختيال والفخر في حالة اليُسْر والدَّعَة والسَّعة، بل يبحث الإنسان في نفسه ومجتمعه ودولته ليعلم الأسباب التي عرَّضتهم لذلك البلاء؛ حتى يدفعوها ويدافعوها بالتوبة والإنابة والإخبات وعمل الصالحات، وفي وقتنا المعاصر قد نزلت الشدائد والبلايا بالمسلمين، فاحتُلَّت كثير من أراضيهم، وقُتل كثير من رجالهم ونسائهم وأطفالهم، ونُهبت كثير من ثرواتهم، واعتُدي على دينهم وعقائدهم، وقد حلَّ القحط وضيق العيش وغلاء الأسعار بكثير من مجتمعاتهم، كما قد فُتح على بعض منهم حتى غدا يرتع ويلعب وكأن ليس بعد اليوم غد، ولن ندفع بلاء الشدة ولا بلاء الرخاء إلا بمعرفة سنة الله - تعالى - في ذلك حتى لا تحملنا أمواج الأماني والغرور أو اليأس والقنوط، وليس هناك نُجْحٌ إلَّا بالتذلل والخضوع والتضرع لله وطلب هدايته الصراطَ المستقيم، والعمل بما نعلم من الخير والصبر عليه، واجتناب ما علمنا من الشر والصبر عنه. نسأل الله بفضله ومنِّه أن نكون ممن اختبرهم فوجدنا أحسن عملاً، وأن يرزقنا الثبات على ذلك حتى الممات، اللهم آمين
فإنه تمرُّ بالناس - سواء كان ذلك على مستوى الفرد أو الجماعة أو الدولة - فترات تتباين فيها الأحوال: من خير وشر، وغنى وفقر، وصحة وسقم، ورخاء وقحط، وانتصار وهزيمة، وعلوٍّ وانكسار، وقد يحار كثير من الناس في تفسير ذلك، ويخطئ كثيرون منهم عندما يرون أن ذلك من دورات الزمان المتعاقبة التي تمر بالأمم في مختلف العصور ولسان حالهم بل مقالهم: قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ [الأعراف: 59].
والحقيقة أن ما نــراه من تقلُّب الأحــوال وتغايرها إنما هو أثــر من آثار حكمة الله الحكيم الخبير؛ فإن لله - تعالى - الأسماء الحسنى، وله تسع وتسعون اسماً مَنْ أحصاها دخل الجنة؛ كما ثبت ذلك في الحديث النبوي، وإن من هذه الأسماء الحسنى اسم «الحكيم».
وقد ورد اسم «الحكيم» فــي القــرآن فــي أكثــر من 90 موضعاً من كتاب الله - تعالى -؛ ســواء كــان معــرَّفاً بـ «ال» أو بدونها، قُرِنَ فيها أكثر ما قُرِنَ باسم «العزيز» واسم «العليم»، ومن هنا يتبين أن أكثر ما يناسب الحكمة (الصفة في اسم الحكيــم): العــزة والعلــم؛ فبالعلــم تُوضع الأمـور فـي أماكنها اللائقة بها، وبالعزة يتم إنفــاذ ما قضــاه الله - تعالى - حيث لا يغالبه في ذلك أحد.
والحكيم: هو الذي يُحْكِم الأشياء ويتقنها، والحكيم: ذو الحكمة، والحكمة عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، ويقال لمن يحسن دقائق الصناعات ويتقنها: حكيم.
وحكمة الله - تعالى - تتناول سائر الموجودات؛ فتتناول الخَلْق والتقدير والتشريع؛ فما خلقه الله - تعالى - خلقه على أحسن خَلْق يليق به وبدوره في الحياة والغاية التي خُلق لأجلها، وما قدَّره الله - تعالى - من الخير والشر والرخاء والشدة؛ فقد قدره على غاية الإتقان والتدبير، حتى إذا كُشف للناس ما خبَّأه الله من غيب وراء هذه الأمور المقدَّرة؛ أدركوا أن هذا التقدير في غاية الحسن، ولا مزيد عليه، وما شرعه الله مما أمر به أو نهى عنه، وما رتّب على ذلك من المكافآت أو العقوبات؛ قد أوفى على الغاية في تحقيق ما لأجله شرع؛ إذ يـدرك النـاس بعـد التعب والشدة واللَأْواء جرَّاء بُعْدهم عما شرعه الله - تعالى - أنه لا يُصلحهم ويُصلح حياتهم إلا اتِّباع شرع الله، حتى لينادي بتطبيق شرع الله من لا يؤمن بالإسلام؛ لمعرفته أنه لا يخرجهم من هذه الورطة إلا تطبيق الشرع في هذا الجانب.
وها نحن أولاء نجد الغرب المشرك الذي يعادي الإسلام ورسوله ولا يدين دين الحق، بل كل همه وشأنه القضاء على دعوة الحق؛ نجد بعض المتخصصين والمثقفين فيه بعد الأزمة المالية الطاحنة التي تمر بهم قد تعالت أصواتهم بتطبيق الشريعة الإسلامية في الجانب الاقتصادي، وكأن هذا تفسير معاصر لقوله - تعالى -: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْـحَقُّ [فصلت: 35].
وتفصيل هذه الجملة لا يفي به في الحقيقة المجلدات الكبار؛ فإن النظر في حكمة الله - تعالى - يعني النظر فيما تقدم كله، وما تقدم أفراده لا تنحصر؛ فكيف يمكن الإحاطة بها؟ ومن ثم نقتصر في حديثنا على الحكمة الواضحة من سنة الابتلاء التي وجدت مع الخليقة وستبقى ببقائهم؛ فهو - سبحانه وتعالى - يبتلي من يبتلي على علم، وهو قادر على إنفاذ ما ابتلى به لا يغالبه في ذلك أحد.
وأصل الابتلاء في اللغة: الاختبار والامتحان، وهو الذي يبيِّن موقف المبتلَى مما ابتُلي به وتصرُّفه حياله، وبذلك تتباين درجات الناس وتتحدد مقاديرهم ومنازلهم في الآخرة، والابتلاء كما يكون بالضراء يكون أيضاً بالسراء، وكما يكون بالخير يكون بالشر، وقد يكون الابتلاء بالسراء أشد من الابتلاء بالضراء، والابتلاء بالخير أشد من الابتلاء بالشر، أو العكس، وكما يحدث الابتلاء للمؤمنين فإنه يحدث للكافرين، وله - تعالى - في ذلك كله الحكمة البالغة.
من حكمة الابتلاء:
لم يكن الابتلاء بالسراء والضراء والحسنات والسيئات والخير والشر مجرد حالة أو موقف، بل كان سُنَّة ربانية ماضية في الناس، كما لم يكن مجرد انتقام من الناس وعقاباً لهم على طغيانهم وضلالهم ومعصيتهم، وإن كانوا مستحقين لذلك بسبب ما كسبت أيديهم، بل كان ذلك لحِكَم جليلة ذكرتها النصوص، وإن كانت الحكمة العامة التي تجمع كل ذلك هو اهتداء الناس وتعبُّدهم لله وحده، والبُعْد عن طريق التمرُّد والعصيان وهو طريق الشيطان:
- التضرع والتذلل والخضوع لرب الأرض والسماوات:
إن الله - تعالى - لا يرضى لعباده الكفر ولا يحبه لهم؛ لذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب تحضُّ الناس على الخير والحق، وتأمرهم بهما، وتبغِّض إليهم السوء والشر وتنهاهم عنهما، لكن من الناس من لا يكفيهم ذلك، فيبتليهم الله - تعالى - ليفيقوا من سكرتهم ويرجعوا إليه، فإن لم يستجيبوا تابع عليهم الابتلاء بأشكاله المتعددة من خير وشر وسراء وضراء؛ لعلهم يتوبون ويؤوبون، وقد بيَّن الله - تعالى - لنبيه أن الابتلاء سنة ماضية في الأمم التي سبقته فقال: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ [الأنعام: 24]، والبأساء: شدة الفقر والضيق في المعيشة، والضراء: الأسقام والأمراض العارضة في الأبدان، بل بيَّن الله - تعالى - أنه ما أرسل رسولاً منه إلى أمة من الأمم فعتوا عن أمره ونهيه وعصوا رسله؛ إلا ابتلاهم؛ حتى يتضرعوا له فيذلوا له ويستكينوا لعزته، قال - تعالى -: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ [الأعراف: 49].
لـم تكـن العقـوبات أو الابتلاءات عقاباً صرفاً، بل كانت تهدف إلى حمل الناس على التضرع إلى الله - تعالى - وحده والخضوع لعظمته واللجوء إليه؛ لأن ترك اللجوء إلى الله والتذلل له خاصة عند الشدائد هو من الاستكبار، كما أن اللجوء إليه وإلى غيره من أهل الصلاح أو غيرهم شرك به، والله - تعالى - لا يقبـل هـذا ولا ذاك، وقـد بيَّـن الله - تعالى - علة ما يرسله من عذاب على من خالف أمره وأمر رسوله الذي أرسل إليه، فقال: فَلَوْلا إذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا [الأنعام: 34]؛ وقال: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ [المؤمنون: 67].
ولــو أن الإنســان إذا جاءه بأس الله تضرَّع لله واستكان له لكشف عنــه ما ألمَّ به، لكن الشيطان لا يزال يغوي ابن آدم ويعده ويمنِّيه؛ كما قال - تعالى -: وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 34]، وقد يأتي بعد الابتلاء بالشدة والبأساء والضراء الابتلاءُ بالرخاء والدَّعَة الذي يعقبه العذاب والعقاب؛ أعاذنا الله من ذلك؛ كما قال - تعالى -: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإذَا هُم مُّبْلِسُونَ [الأنعام: 44]، فبدَّل الله ضيق عيشهم رخاء وسَعَة، وبدَّل أمراضهم صحة في الأجسام وسلامة في الأبدان، وقد فرحوا من شدة جهلهم بهذا التبديل وتغيُّر الأحوال من بأس وشدة إلى دَعَة وراحة، ولم يعلموا سنة الله في الابتلاء؛ فأخذهم العذاب من حيث لا يشعرون؛ كما قال - تعالى -: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْـحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَّقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [الأعراف: 49 - 59].
- إرجاع الناس إلى الحق وتذكيرهم به:
وقد كانت الغاية الشرعية من هذا الابتلاء أن يرجع النــاس إلى ربهــم؛ خالقهــم ورازقهــم؛ محييهــم ومميتهم؛ كما قال الله - تعالى - عن اليهــود: وَبَلَوْنَاهُم بِالْـحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف: 861]، فــاختبـرهــم اللـه - تعالى - بالرخاء في العيش، والصحة والعافية، والسعة في الرزق؛ وهي الحسنات، كما اختبرهم بالشدة في العيش، والشظف فيه، والأدواء في الأبدان والمصائب والرزايا في الأموال؛ وهي السيئات؛ ليرجعوا إلى طاعة ربهم وينيبوا إليه، ويتوبوا من معاصيه، فلم يكن الابتلاء لمجرد الانتقام؛ وإن كان الناس يستحقونه بسبب عتوهم وعدم انقيادهم للحق، لكن الله الحكيم لم يعاجلهم بالعقوبة، بل مدَّ لهم وفسح؛ لعلهم يرجعون، حتى إذا أخذهم بعد طغيانهم وشدة إعراضهم وتناسيهم لما أمرتهم به رسلهم؛ لم يكن لهم حجة أو عذر يعتذرون به، وقد تكرر هذا المشهد مع كثير من الأمم؛ كما في قوله - تعالى -: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 14]، وقوله - تعالى -: وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [السجدة: 12]، وكقوله - تعالى -: وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف: 84]، وكقوله - تعالى -: وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [الأعراف: 031]، فكانت الشدة والبأس الذي يصيب الله - تعالى - به العباد من تمام الرحمة بهم، وذلك لردِّهم عن غيِّهم وإرجاعهم إلى الطريق المستقيم.
- تمييز الصفوف وبيان حقيقة الإيمان:
لا يُظهِـر معادن الناس على حقيقتها إلا ما يقـدره الله - تعالى - على الناس من شدة أو رخاء، كما أن كثيرين منهم لا تتبين حقيقة معادنهم إلا فيما يكلف الله به من الأمر والنهي؛ لذلك كان الابتلاء هو الذي يبين ذلك ويظهره. قال الله - تعالى -: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْـمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْـخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران: 971]، وقال: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْـمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد: 13]، وقال الله - تعالى -: وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْـخَوْفِ وَالْـجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة: 551] وقال - سبحانه -: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْـجَنَّةَ وَلَـمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة: 412]، وقال - تعالى -: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [آل عمران: 681]، وقال - تعالى -: الـم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت: 1 - 3]، فلولا ما يقدره الله - تعالى - من الابتلاء والاختبار ما تميز الصابــر مــن الجــازع، وما تبيَّن الصادق مــن الكـاذب، ولا تبيَّن المؤمن من المنافق، ولا تبيَّن المجاهد من القاعد.
- الإقرار وترك التكذيب:
عندما يتمادى الناس في طغيانهم ويزداد عتوهم؛ فإن الله - تعالى - يبتليهم حتى يضطرهم البلاء إلى الاعتراف والإقرار بما كانوا عليه معترضين، والتصديق بما كانوا به مكذِّبين، ولقد أخذ الله - تعالى - آل فرعون بأنواع متعددة من الابتلاءات، حتى اضطرهم ذلك إلى أن يطلبوا من موسى - عليه السلام - أن يدعو لهم الله كي يكشف عنهم البلاء، وفي ذلك إقرار منهم بنبوة موسى - عليه السلام - فلما وقع عليهم الرجز قالوا: يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إسْرَائِيلَ [الأعراف: 431]، وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إنَّنَا لَـمُهْتَدُونَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إذَا هُمْ يَنكُثُونَ [الزخرف: 94 - 05]، لكنهم لم يستقيموا على هذا الوعد، بل لما كشف الله عنهم العذاب نكثوا عهدهم، فمن علم الله فيهم خيــراً ثبَّتهــم على هذا الاعتــراف والإقرار، وإلا كان الابتلاء في هذه الحالة عذاباً وعقوبة على الكفر والطغيان، كما حدث لفرعون حينما أدركه الغرق هو وجنده قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْـمُسْلِمِينَ [يونس: 09]، لكن الإيمان لا ينفع العبد إذا عاين عذاب الله ونقمته، وهذه سنة ماضية؛ كما قال - تعالى -: فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ لَـمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ [غافر: 58].
كانت هذه بعض الحِكَم التي يمكن رؤيتها بيُسْر مما يقدره الله - تعالى - من الابتلاء، ولا ينبغي أن يكون التصرف الوحيد حيال الابتلاء هو التسخُّط والجزع في حالة الشدة، أو الاختيال والفخر في حالة اليُسْر والدَّعَة والسَّعة، بل يبحث الإنسان في نفسه ومجتمعه ودولته ليعلم الأسباب التي عرَّضتهم لذلك البلاء؛ حتى يدفعوها ويدافعوها بالتوبة والإنابة والإخبات وعمل الصالحات، وفي وقتنا المعاصر قد نزلت الشدائد والبلايا بالمسلمين، فاحتُلَّت كثير من أراضيهم، وقُتل كثير من رجالهم ونسائهم وأطفالهم، ونُهبت كثير من ثرواتهم، واعتُدي على دينهم وعقائدهم، وقد حلَّ القحط وضيق العيش وغلاء الأسعار بكثير من مجتمعاتهم، كما قد فُتح على بعض منهم حتى غدا يرتع ويلعب وكأن ليس بعد اليوم غد، ولن ندفع بلاء الشدة ولا بلاء الرخاء إلا بمعرفة سنة الله - تعالى - في ذلك حتى لا تحملنا أمواج الأماني والغرور أو اليأس والقنوط، وليس هناك نُجْحٌ إلَّا بالتذلل والخضوع والتضرع لله وطلب هدايته الصراطَ المستقيم، والعمل بما نعلم من الخير والصبر عليه، واجتناب ما علمنا من الشر والصبر عنه. نسأل الله بفضله ومنِّه أن نكون ممن اختبرهم فوجدنا أحسن عملاً، وأن يرزقنا الثبات على ذلك حتى الممات، اللهم آمين